الثلاثاء، 5 مارس 2013

وأحسست داخل نفسي أن هذه ليست مهارتي، بل كانت دعوات أبي المؤمن المتوكل الصبور!



مذكرات الشيخ/ محمد الغزالي

|■--اضطرابات سياسية --■|
ولما كنت يافعاً تولّى إسماعيل صدقي باشا الحكم، فألغى الدستور القائم، وجاء بدستور آخر، وقبل ذلك كان محمد محمود باشا قد عطل الدستور مؤقتاً ومهّد للضربة القادمة...
وكانت الأمة كلها ضد هذه التصرفات، وترى أن القصر وأحزابه يعملون لمصلحة إنجلترا ضد جمهرة الشعب المصري، وكان الطلاب المصريون يقودون حركة تمرُّد لا آخر لها... فلم يكن عجباً أن يشارك معهدنا في هذه الثورات، ولم يكن مستغرباً أن أكون بين قادتها.
وقد دفعت ثمن ذلك غاليا، قٌدّتُ إحدى المظاهرات العنيفة، وحُقّق معي ثم أفرجت النيابة عني بكفالة مالية قدرها جنيهان، دفعها أبي وهو يلهث من الإعياء. ومضت القضية في طريقها العتيد، وما كنت أدري ما يفعل بي لولا أن قانوناً بالعفو العام شملها فيما شمل من أمثالها، ونجوت من السجن.
وقُدت أخرى داخل المعهد، وبعد التحقيق رُئي فصلي سنة من الدراسة، أو بعبارة أخرى رئي منعي من دخول امتحان آخر العام، وكنت في السنة الثانية الثانوية، فعزَّ عليَّ أن أتخلف سنة عن زملائي فتركت الدراسة نهائياً وانفصلت من المعهد، وقلت: أتقدم لامتحان "الشهادة الثانوية –القسم الأول" من الخارج.
وكانت مغامرة لا يقدم عليها أحد! ورأيت أبي –رحمه الله- يكاد يقتله الحزن لخيبة أمله في مستقبلي، وفي الرؤيا التي سيطرت عليه.

|■--عقبات --■|


غير أن علّة فادحة دهمتني سقطت بعدها طريح الفراش ثلاثة شهور، وانفتحت في جسدي عدة خرّاجات قاتلة، وكنت خلال هذه الشهور في عالم آخر، واتجهت الظنون إلى أني مائت لا محالة، وترقب أهل القرية بين الحين والحين نعيي! وعلمت بعد ما دخلت في مرحلة الشفاء أن تموين البيت كله بيع في تمريضي! وأن الأب الجلد المؤمن لم يدخر وسعاً في علاجي لأصح، ماذا أفعل؟ نهضت من هذا المرض جلداً على عظم، وأرسلت لأصدقائي في المعهد أن يبعثوا إلي بالكراسات التي يكتبون فيها مسائل الرياضة، وبعض الكتب المقررة، وكانوا عند حسن الظن، فأنجدوني بما يعينني على المذاكرة...
كان علي أن أستعد للامتحان في نحو عشرين علما، هي المقررات الرسمية للسنوات الأولى والثانية والثالثة الثانوية، وذلك وفق ما يقضي به قانون الذين يُمتحنون من منازلهم!
كان زملائي يحضرون في معمل الطبيعة والكيمياء، وكانوا يسمعون المدرس وهو يشرح الجبر والحساب والهندسة، أما أنا فكنت ممدداً على عيدان الذرة الجافة فوق سطح دارنا، أقرأ وأعاني وأستعين بالله!
إن حالتي في المعهد كانت عادية، كنت سباقاً في علوم اللغة والأدب فقط، أما في الفقه والتفسير وغيرهما فقد كان نفوري شديداً من كتب نور الإيضاح، ومتن القدوري، ومجمع الأنهر على ملتقى الأبحر، التي كانت تقدم لنا الفقه الحنفي ، كما كنت ضائقاً بتفسير النسفي وأبي السعود وغيرهما...
لا بد مما ليس منه بد! وبعد عام من فصلي ذهبت مرة أخرى إلى المعهد متقدماً من الخارج في امتحان صعب، وكان زملائي يرثون لحالي، ولكنهم لا يحبون أن يجرحوا كبريائي، فيسكتون مشفقين...
لا أدري كيف أديت الامتحان بهدوء! وكرهت أن أعود إلى أبي أنتظر النتيجة في جواره! وعشت في مساكن المعهد حتى تم إعلان النتيجة، وكانت المفاجأة: نجحت في هذا الامتحان الصعب، بل كنت من الأوائل في القطر كله والأول في معهد الإسكندرية...
وأحسست داخل نفسي أن هذه ليست مهارتي، بل كانت دعوات أبي المؤمن المتوكل الصبور!