«ملاحقة نور النهار»!
د. ساجد العبدلي
كان رئيسا لواحدة من أهم الشركات المالية في العالم، صاحب ثروة طائلة ووضع عائلي مستقر ومستقبل باهر لكل من يراه، كان من أولئك النظاميين الحازمين في عملهم، ممن يعشقون مواجهة التحديات والتغلب عليها. في مرة من المرات احتاج أن يتحدث مع أحد رجال الأعمال المؤثرين فلم يجد معه موعدا قريبا، فرافقه في سفر لأجل أن يتمكن من الحديث معه طوال الرحلة، وبالفعل نجح في عقد الصفقة!
د. ساجد العبدلي
كان رئيسا لواحدة من أهم الشركات المالية في العالم، صاحب ثروة طائلة ووضع عائلي مستقر ومستقبل باهر لكل من يراه، كان من أولئك النظاميين الحازمين في عملهم، ممن يعشقون مواجهة التحديات والتغلب عليها. في مرة من المرات احتاج أن يتحدث مع أحد رجال الأعمال المؤثرين فلم يجد معه موعدا قريبا، فرافقه في سفر لأجل أن يتمكن من الحديث معه طوال الرحلة، وبالفعل نجح في عقد الصفقة!
كان كالساعة السويسرية، وكل شيء في حياته كان يبدو رائعا وغير قابل للفشل، حتى جاءت إحدى زيارات الكشف الطبي الدوري التي كان عليه أن يقوم بها وفقا لقانون العمل في شركته فلم تحمل أخبارا سارة، حين اكتشف طبيبه وجود علامات غير طبيعية في الصورة الإشعاعية لدماغه، وكان التشخيص أنها ورم دماغي خبيث في المراحل المتقدمة غير القابلة للعلاج!
صدمة ثقيلة ينهار أمامها أصلب الرجال وأقواهم، ولكن في مقابلها قال "جين أوكيلي"، لكن كنت محظوظا، لقد أخبرني الأطباء بأن لدي ثلاثة أشهر متبقية من العمر حتى يتسنى لي ترتيب أموري الأخيرة!
دون إبطاء وبلا تردد كثير، تعامل جين مع المسألة بذات النفسية والعقلية التي كانت قد جعلته ولسنوات طويلة في منصبه القيادي الفذ. قام بإعداد خطة استندت إلى إعادة ترتيب الأولويات، لم تحتمل أبدا شيئا غير الأهم، فانطلق بعمل ما أسماه "فك الارتباط" منهيا وبشكل خاطف كل ارتباطاته العملية، حيث استقال من عمله مباشرة، ثم باشر بعدها وبسرعة في تهيئة معارفه وأصدقائه لموته وتوديعهم، وقد كان لجين طريقته الخاصة في عمل ذلك. قام برسم دوائر حول بعضها بعضاً، ثم قام بترتيب الناس الذين يعنيه أمرهم في تلك الدوائر، ابتداء من الدائرة الخارجية ثم التي في داخلها وهكذا وصولا إلى دائرة القلب، حيث وضع أقرب الناس إلى نفسه، زوجته وأبناءه، وهم من يريد أن يقضي الأيام الأخيرة معهم. ولم يضيع ولا حتى دقيقة من الوقت، حيث اكتفى في بعض الحالات باتصال هاتفي أو لقاء سريع مع معارفه ليقوم بوداعهم معتذرا بأن ليس لديه من العمر ما يكفي لأكثر من ذلك!
وتحت تهديد هذه المقصلة التي كانت سيسقط نصلها بعد أيام معدودة يقرر جين أيضا بأنه سيكتب كتابا يستودعه العبرة التي اكتسبها والأفكار التي أشرقت في داخله في أيامه الأخيرة تلك، وهو الأمر الذي أثار استغراب من حوله، ولكن بالفعل صدر كتابه الذي حمل عنوان "ملاحقة نور النهار"، وعنوان جانبي "كيف غيَّر خبر موتي المعلن حياتي؟"... "Chasing Daylight".
يقول جين في "ملاحقة نور النهار" بأنه تقبل خبر موته بهدوء نفس لأنه كان محظوظا بأن علم بذلك قبلها بمدة كافية مما مكنه من توديع أحبته ومنحهم ذكريات أخيرة جميلة، منهيا بذلك ارتباطاته بالحياة بسعادة وسلام، وأنه سيموت وهو لا يحمل في نفسه أي ندم أو أسى على أي شيء، اللهم إلا أساه أنه سيترك زوجته لوحدها في المتبقي من عمرها، ولن يتمكن كذلك من حضور حفل تخرج وزواج صغرى بناته.
يقول جين الذي توفي عن ثلاث وخمسين عاما في سبتمبر 2005م بأنه ظل يدعو الله طوال شهوره الثلاثة الأخيرة بأن تبقى قواه العقلية والنفسية متماسكة حتى يتمكن من إنهاء مهمته الوداعية على أكمل وجه، وأنه لم يندم أبداً أن قضى تلك الفترة الأخيرة من عمره بذلك الترتيب الصارم الدقيق.
ليس كل الناس بقوة شخصية جين أوكيلي بطبيعة الحال، وبالتالي فلا أظن الجميع قادرين على مواجهة الموت بنفس صفاء ذهنه وذاك السلام الداخلي الذي سكنه، ولكن ما استوقفني كثيرا من سيرة "موت" هذا الرجل كيف أنه رأى أهم شيء في حياته في تلك اللحظات، فالتفت بلا تردد نحو أحبته المقربين، ولم يقبل أن يضيع لحظة واحدة من عمره المتبقي بعيدا عنهم.
تجربة مثيرة للعقل والنفس تقودني إلى سؤال الأسئلة: السؤال الذي لا أحد فينا يمكن أن يكون مُعفى من مواجهته، ربما في يوم من الأيام قد يكون قريباً: ماذا لو نظر إليك الطبيب المعالج في عينك مباشرة وأخبرك مثلما أخبروا جين، ماذا تراك كنت ستفعل قبل أن تغرب شمسك الأخيرة؟!