الجمعة، 9 نوفمبر 2012

الغُربة: قدَر المفكر




كلمات أسرّها لزوجه، وهو على فراش الموت يئن، وإلى غد مشرق وسعيد يحِن: “سأعود بعد ثلاثين سنة؛ علّني أجد من يفهمني”، اليوم وأنا أقرأ “لمالك بن نبي” الجزء الثاني لوجهة العالم الإسلامي، أقول له مطمئنا: ” سيدي! لا عليك؛ وإن عُدت فالغربة قدَرك؛ كذلك قدَر كل فكر أصيل”, إنها الغربة/القدَر مهما تبدّل الزمان وتحول المكان؛ إنها الفكرة/الجمرة التي يكتوي بلهيبها صاحبها؛ فتنطلق في الآفاق شاهدة على الخلق أمام الحق؛ إنها حال العالم المعيار، والمفكر الشاهد، إنه رجل جاء من أقصى المدينة يسعى…
أن تغترب عن الأوطان، وتترك الأهل والخلان، ليس ذاك عين الاغتراب، إنما الغربة غربة الفكر وأنت في الديار، أن تحترق همّا، وتعصِر فهما، وتبذُر أملا، في زمن عزَّ فيه شمول النظرة، وراج الاختزال في الحال والمآل.
أن تحتضن الجمر، وأن تستسيغ العلقم لا لشيء؛ بل لمقتضى رسالتك ومسؤوليتك أمام الله وأمام التاريخ؛ يقول “مالك بن نبي” عن حاله منكسرا للحق، شامخا، رغم الاهتزاز، أمام الخلق: “….ففي اللحظة التي أتولى فيها كتابة هذه الصفحات؛ أحس بنظرتين صامتتين ترمقان عملي؛ نظرة والدي العجوز التي تهزني حين لا يجد عنده قطعة خبز يواجه بها عجز أيامه؛ مشفوعة بنظرة ابن أختي الطفل الذي لا يجد خبزا يتبلغ به، وذلك عقابا لي جزاء ما أقوم به من دراسة كهذه…..”(1)
المفكر متجاوز لإحداثيات الزمان والمكان، وضغط اللحظة، وفتك الآن، منفصل غير منفصم، يحمل همّ أمته ووطنه في حِلّه وترحاله، في سُقمه وصحته، مع فقره وغناه؛ فاتورة التفكير أن تجد نفسك بين مساومات كثيرة وتنازلات عديدة، تجعل من التناغم بين فكرك وفعلك جهادا عسيرا، فيضيّق عليك “ملَك السؤال الحضاري” أسئلته : أأتنازل عن المعاني تصيُّدا للمباني؟ أأفك إحرامي الفكري المعرفي انسياقا مع القطعان؟ أأقطع طول غربتي لأن هذا الدّرب درب المنطوين المتشائمين؟ أأقص أوصال حبل التفكير والتأمل؛ إرضاء للجموع، وفتلا لصلات أوهى من بيت العنكبوت؟ أأُقبّل رأس الاختزال، والسذاجة، والسماجة وأحتضنها؟ أم أصبر على الشمول وتعب الفكر انتظارَ المأمول؟
هنا البوْن بين المفكّر، والاقتصادي، والسياسي، وربّ المال؛ فمردودية الأواخر مستعجلَة مستكثرَة، أما الأول فثماره مؤجَّلة مؤخرة: سينبئك إثمار فكره، وطول أمله، وبُعد نظره: طول الزمان، وتبصّر الجَنان؛ كذلك هي سنة الأكوان-يقاطعني مالك بن نبي قائلا-: “وُلدت في بلد وفي عصر يدرك بوضوح نصف الذي يقال، لكن الذي يقول كلمة حول النصف الثاني سوف يحاكم بكل قساوة، فأنا هنا أكتب لإخوتي القابلين للاستعمار والمستعمَرين في الجزائر، لكن إخوتي لم يفهموا أفكاري حين عرضتها بفاعلية، وهكذا سببت لهم نوعا من الشعور بالإهانة والرفض لمصطلح القابلية للاستعمار وحده”.(2)
ليس للمفكر موعد انتخابي يستعجله، ولا مردود مال يدفعه، بل سيّدُه ضميره، وأميره جَنانه، ورقيبُه خالقه وهو بذلك رازقه؛ حتى وإن تبدلت الأحوال، وكثر الأعداء، وجبُن الخلان، وطال الزمان.
يصمت أستاذي “مالك” برهة ثم يصرح متألما متأوها: “في بداية مهمتي منذ عشرين سنة لم يكن في حسابي بكل تأكيد أن تمنحني الإدارة الاستعمارية المساعدة لأحاربها، لذا لم أضع في الحساب سوى هؤلاء الذين هم إخوتي، أولئك الذين اتخذوا من محاربة الاستعمار مهنتهم أمام الجمهور؛ هؤلاء رفضوا كل مساعدة لي، بل على العكس حاربوني بالأسلحة نفسها التي تحاربني بها الإدارة الاستعمارية”(3)
إنها بحق فتنة المفكّر في الدنيا بين مسؤوليتين أخلاقية وعلمية: مسؤولية الحفر المعرفي استكشافا وتأسيسا، ومسؤولية أخرى حضارية إيمانية تربيةً ومصابرة وترشيدا؛ يتأوه “بن نبي” تحت وطأة ملَك السؤال، وسوء الحال؛ فيقول:  ” ….وأنا حينما أخط هذه السطور أتضرع إلى الله أن يوفقني لقول الحقيقة كاملة دون تورية ولا تلميح، وهنا فالشيء الذي أستطيع أن أؤكده ولا أخاف أن يكذبني أحد هنا أمام الناس وأمام الله: أنني المسلم الوحيد في هذه اللحظة الذي يحاول أن يترك للجيل الذي سيأتي مفتاح ما يخفي الغرب من استبطان طبع عالمنا هذا الذي من حولنا، وغير عابئ بما يثقل كاهله من عائلة فيها عجوز وطفل.” (4)
المصدر يقظة فكر .. طه كوري
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) ابن نبي؛ وجهة العالم الإسلامي؛ج: 2، ص: 36.
(2) نفس المصدر؛ ص: 34.
(3) نفس المصدر؛ ص: 35.
(4) نفس المصدر؛ ص: 36.