** :: نعمة الألم :: **
الألم ليس مذموماً دائماً ، ولا مكروهاً أبداً ، فقد يكون خيراً للعبد أن يتألّم
، إنّ الدّعاء الحار يأتي مع الألم ، والتّسبيح الصّادق يُصاحب الألم ، وتألّم الطالب زمن التحصيل و حمله لأعباء الطّلب يُثمر عالِماً جهبذاً
.لأنّه احترق في البداية ... فأشرق في النّهاية
و تألّم الشاعر ومُعاناته لِما يقول تُنتج أدباً مؤثّراً و خلّاباً ... لأنّه انقدح مع الألم من القلب و العصَبِ والدم
... فهزّ المشاعر و حرّك الأفئدة
... و مُعاناة الكاتب تُخرج نتاجاً حيّاً جذّاباً يمور بالعِبر و الصّور و الذّكريات
، إنّ الطالب الذي عاش حياة الدّعة و الرّاحة ولم تلذعه الأزمات ، ولم تكوِهِ المُلمّات ، إنّ هذا الطالب يبقى كسولاً مُترهّلاً فاتراً
... و إنّ الشاعر الذي ما عرف الألم ولا ذاق المرّ ولا تجرّع الغُصص ... تبقى قصائده رُكاماً من رخيص الحديث ، وكُتلاً من زَبَد القول
لأن قصائده خرجت من لسانه و لم تخرج من وجدانه، وتلفّظ بها فهمه ولم يَعِشها قلبه و جوانحه
وقد نرى دواوين لشعراء و لكنها باردة لا حياةَ فيها ولا روح ، لأنّهم قالوها بلا عناء ، ونظموها في رخاء ... فجاءت قطعاً من الثّلج و كتلاً من الطين
و الواعِظ المُحترِق تصل كلماته إلى شغاف القلوب و تغوص في أعماق الرّوح ... لأنّه يعيش الألم و المُعاناة
و نرى مصنّفات من الوعظ لا تهزّ السامع شعرة ، ولا تُحرّك في المُنصت ذرّة ... لأنّهم يقولونها بلا حرقة و لا لوعة ، ولا ألم و لا مُعاناة
وكذلك ... فالألم في كثير من الأحيان يولّد الإبداع و لين الجانب
و أسمى من هذه الأمثلة و أرفع حياة المؤمنين الذين عاشوا فجر الرّسالة ومولد الملّة و بداية البعث
فإنّهم أعظم إيماناً ، وأبرّ قلوباً ، وأصدق لهجة ، وأعمق علماً
لأنّهم عاشوا الألم و المُعاناة ، ألم الجّوع و الفقر والتشريد ، والأذى و الطّرد و الإبعاد و فراق المألوفات و هجر المرغوبات
، و ألم الجّراح و القتل و التّعذيب
فكانوا بحق صفوة الصافية ، والثّلة المُجتباة ... آياتٍ في الطّهر ، و أعلاماً في النّبل ، ورموزاً في التّضحية
قال تعالى: (ذلك بأنّهم لا يُصيبهم ظماٌ ولا مخمصةٌ في سبيل الله و لا يطأئون مَوطِئاً يغيظ الكُفَّار ولا ينالون من عدوٍّ نيلاً إلا كُتب لهم به عملٌ صالح
(إنّ الله لا يُضيع أجر المُحسنين
وفي عالم الدّنيا الكثير من أناسٌ قدّموا أروع نتاجهم لأنّهم تألّموا
:يقول وليام جيمس
"الألم مفتاح الإبداع ... و طريق العبقريّة"
:ويقول جلال الدّين الرّومي
"كيف يضحك المرج إذا لم يبكِ السّحاب ؟!! و هل ينال الطّفل اللبن بغير بُكا؟"
إذاً ،، فلا تجزع من الألم ، ولا تخف من المُعاناة ، فربّما كانت قوّةً لك و متاعاً إلى حين
فإنّك إن تعِش مشبوب الفؤاد ، محروق الجَوَى ، ملذوع النّفس ... أرقُّ و أصفى من أن تعيش بارد المشاعر ، فاتِر الهمّة ... خامد النّفس
و لنتذكّر دائماً
أنّه لولا الظّلام ... لما كان للضياء قيمة
ولولا الدّموع ... لما كانت قيمة البسمة
ولولا الشدّة ... لما عرفنا قيمة الرّخاء
وأنّه لا قيمة لشيء ... لولا تعرّفنا على نقيضه
و أنّ ما نصادفه فنبغضه ... هو بذاته ما يُعرّفنا على أنفسنا ، فيقودنا إلى ما نحبّه
... ولنتذكّر
أنّ أصعب المُشكلات هي التّي تُشكّلنا ... و تكسبنا العمق و الحنو و الحكمة
و تزوّدنا بالإدراك الذّاتي ... بل تجعلنا نُصبح من سنكون عليه ، كما جعلتنا من نحن عليه الآن
.... و علينا أن نرضا بها و ألاّ نقبل أن نُقايضها بالعالم كلّه
(جائني عبر البريد)